فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن زيد: لا تعصوا ربكم، وقال مقاتل: لا تخلطوا التوحيد بالشرك، ولعل الأول أولى.
{إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم على ذلك وهو تعليل للأمر والنهي السابقين كأنه قيل: استقيموا ولا تطغوا لأن الله تعالى ناظر لأعمالكم فيجازيكم عليها، وقيل: إنه تتميم للأمر بالاستقامة، والأول أحسن وأتم فائدة.
وقرأ الحسن والأعمش يعملون بياء الغيبة، وروي ذلك عن عيسى الثقفي أيضًا، وفي الآية على ما قال غير واحد دليل على وجوب اتباع المنصوص عليه من غير انحراف بمجرد التشهي وإعمال العقل الصرف فإن ذلك طغيان وضلال، وأما العمل بمقتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص فذلك من باب الاستقامة كما أمر على موجب النصوص الآمرة بالاجتهاد، وقل الإمام: وعند لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه لما دل عموم النص على حكم وجب الحكم بمقتضاه لقوله تعالى: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} والعمل بالقياس انحراف عنه، ولذا لما ورد القرآن بالامر بالوضوء وجيء بالاعضاء مرتبة في اللفظ وجب الترتيب فيها، ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل، والبقر من البقر وجب اعتبارها، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به كل ذلك للأمر بالاستقامة كما أمر انتهى.
وأنت تعلم أن إيجاب الترتيب في الوضوء لذلك ليس بشيء ويلزمه أن يوجب الترتيب في الأوامر المتعاطفة بالواو مثل: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة: 43] وكذا في نحو: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] بعين ما ذكر في الوضوء وهو كما ترى، وكأنه عفا الله تعالى عنه يجزم بأن الحنفية الذين لا يوجبون الترتيب في أعمال الوضوء طاغون خارجون عما حد الله تعالى احتمال للقول بأنهم مستقيمون وهو من الظلم بمكان.
{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ} أي لا تميلوا إليهم أدنى ميل، والمراد بهم المشركون كما روي ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفسر الميل بميل القلب إليهم بالمحبة، وقد يفسر بما هو أعم من ذلك كما يفسر: {الذين ظَلَمُواْ} بمن وجد منه ما يسمى ظلمًا مطلقًا، وقيل: ولإرادة ذلك لم يقل إلى الظالمين؛ ويشمل النهي حينئذ مداهنتهم وترك التغيير عليهم مع القدرة والتزني بزيهم وتعظيم ذكرهم ومجالستهم من غير داع شرعي وكذا القيام لهم ونحو ذلك، ومدار النهي على الظلم والجمع باعتبار جمعية المخاطبين، وقيل: إن ذلك للمبالغة في النهي من حيث أن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم مثلًا، وتعقب بأنه إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث أنهم جماعة وليس فليس: {فَتَمَسَّكُمُ} أي فتصيبكم بسبب ذلك كما تؤذن به الفاء الواقعة في جواب النهي: {النار} وهي نار جهنم، وإلى التفسير الثاني وما أصعبه على الناس اليوم بل في غالب الأعاصير من تفسير ذهب أكثر المفسرين، قالوا: وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الافضاء إلى مساس الناس النار فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم كل الميل، ويتهالك على ما مصاحبتهم ومنادمتهم.
ويتعب قلبه وقالبه في إدخال السرور عليهم، ويستنهض الرجل والخيل في جلب المنافع إليهم.
ويبتهج بالتزيي بزيهم والمشاركة لهم في غيهم.
ويمد عينيه إلى ما متعوا به من زهرة الدنيا الفانية.
ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية غافلًا عن حقيقة ذلك ذاهلًا عن منتهى ما هنالك؟ا وينبغي أن يعدّ مثل ذلك من الذين ظلموا لا من الراكنين إليهم بناءًا على ما روي أن رجلًا قال لسفيان: إني أخيط للظلمة فهل أعدّ من أعوانهم، فقال له: لا أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم، وما أحسن ما كتبه بعض الناصحين للزهري حين خالط السلاطين، وهو عافانا الله تعالى وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصحبت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله تعالى ويرحمك أصبحت شيخا كبيرًا وقد أثقلتك نعم الله تعالى تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيك صلى الله عليه وسلم وليس كذلك أخذ الله تعالى الميثاق على العلماء، قال سبحانه: {لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] وأخف ما احتملت إنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك اتخذوك قطبًا تدور عليك رحى باطلهم وجسرًا يعبرون عليك إلى بلائهم وسلمًا يصعدون فيك إلى ضلالهم يدخلون الشك بك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا} [مريم: 59] فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله شقم وهيء زادك فقد حضر السفر البعيد، {وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء} [إبراهيم: 38] والسلام.
وعن الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملًا، وعن محمد بن سلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء، وفي الخبر من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله تعالى في أرضه، ولعمري إن الآية أبلغ شيء في التحذير عن الظلمة والظلم، ولذا قال الحسن: جمع الدين في لاءين يعني: {لا تظغوا} [هود: 112] ولا تركنوا ويحكى أن الموقف أبا أحمد طلحة العباب صلى خلف الإمام فقرأ هذه الآية فغشى عليه فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف الالم.
هذا وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بهذين النهيين بعد الأمر بالاستقامة للتثبيت عليها، وقد تجعل تأكيدًا لذلك إذا كان المراد به الدوام والثبات، وعن أبي عمرو أنه قرأ: {تَرْكَنُواْ} بكسر التاء على لغة تميم.
وقرأ قتادة وطلحة والأشهب، ورويت عن أبي عمرو: {تَرْكَنُواْ} بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وهي على ما في البحر لغة قيس وتميم.
وقال الكسائي: إنها لغة أهل نجد وشد تركن بالفتح مضارع ركن كذلك، وقرأ ابن أبي عبلة: {وَلاَ تَرْكَنُواْ} مبنيًا للمفعول من أركنه إذا أماله، وقراءة الجمهور: {تَرْكَنُواْ} بفتح الكاف، والماضي ركن بكسرها وهي لغة قريش، وهي الفصحى على ما قال الأزهري وقرأ ابن وثاب. وعلقمة. والأعمش. وابن مصرف. وحمزة فيما يروى عنه: {فَتَمَسَّكُمُ} بكسر التاء على لغة تميم أيضًا: {وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} من أنصار يمنعون العذاب عنكم، والمراد نفي أن يكون لكل نصير، والمقام قرينة على ذلك، والجملة في موضع احلال من ضمير: {تمسكم}، {أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} من جهته تعالى إذ قد سبق في حكم تعالى أن يعذبكم بركونكم إليهم ولا يبقى عليكم، و: {ثُمَّ} قيل: لاستبعاد نصره سبحانه إياهم وقد أوعدهم العذاب على ذلك وأوجبه لهم، وتعقب بأن أثر الحرف إنما هو في مدخوله ومدخول: {ثُمَّ} عدم النصرة وليس بمستبعد، وإنما المستبعد نصر الله تعالى لهم، فالظاهر أنها للتراخي في الرتبة لأن عدم نصر الله تعالى أشد وأفظع من عدم نصرة غيره، وأجيب بما لا يخلو عن تكلف، وأيًا مّا كان فالمقام مقام الواو إلا أنه عدل عنها لما ذكر.
وجوز القاضي أن تكون منزلة منزلة الفاء بمعنى الاستبعاد فإنه سبحانه لما بين أنه معذبهم وأن أحدًا لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلًا، ووجه ذلك بأنه كان الظاهر أن يؤتي بالفاء التفريعية المقارنة للنتائج إذا المعنى أن الله تعالى أوجب عليكم عقابه ولا مانع لكم منه فاذن أنتم لا تنصرون فعدل عنه إلى العطف بثم الاستبعادية إلى الوجه الذي ذكره، واستبعاد الوقوع يقتضي النفي، والعدم الحاصل الآن فهو مناسب لمعنى تسبب النفي، ودفع بذلك ما قيل عليه: إن الداخل على النتائج هي الفاء السببية لا الاستبعادية ولا يخفى قوة الاعتراض، وفرق بين وجهي الاستبعاد السابق والتنزيل المذكور بأن المنفى على الأول نصرة الله تعالى لهم، وعلى الثاني مطلق النصرة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} اعتراض لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتسليتِه بأنّ أهل الكتاب وهم أحسن حالًا من أهل الشّرك قد أوتوا الكتاب فاختلفوا فيه، وهم أهل مِلّة واحدة فلا تَأس من اختلاف قومك عليك، فالجملة عطف على جملة: {فلا تك في مرية} [هود: 109].
ولأجل مَا فيها من معنى التّثبيت فُرع عليها قوله: {فاستقم كما أمرت} [هود: 112].
وقوله: {فاختلف فيه} أي في الكتاب، وهو التّوراة.
ومعنى الاختلاف فيه اختلاف أهل التّوراة في تقرير بعضها وإبطال بعض، وفي إظهار بعضها وإخفاء بعض مثل حكم الرجم، وفي تأويل البعض على هواهم، وفي إلحاق أشياء بالكتاب على أنّها منه، كما قال تعالى: {فويل للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند الله} [البقرة: 79].
فهذا من شأنه أن يقع من بعضهم لا من جميعهم فيقتضي الاختلاف بينهم بين مُثبت وناففٍ، وهذا الاختلاف بأنواعه وأحواله يرجع إلى الاختلاف في شيء من الكتاب.
فجمعت هذه المعاني جمعًا بديعًا في تعدية الاختلاف بحرف (في) الدالة على الظرفيّة المجازيّة وهي كالملابسة، أي فاختلف اختلافًا يلابسه، أي يلابس الكتاب.
ولأنّ الغرض لم يكن متعلّقًا ببيان المختلفين ولا بذمّهم لأنّ منهم المذموم وهم الذين أقدموا على إدخال الاختلاف، ومنهم المحمود وهم المُنكرون على المبدّلين كما قال تعالى: {منهم أمّةٌ مقتصدةٌ وكثيرٌ منهم ساء ما يعملون} [المائدة: 66] وسيجيء قوله: {وإن كُلا لَمَا ليوفينّهم ربك أعمالهم} [هود: 111]، بل كان للتّحذير من الوقوع في مثله.
بُني فعل (اختلف) للمجهول إذ لا غرض إلاّ في ذكر الفعل لا في فاعله.
يجوز أن يكون عطفًا على جملة: {وإنّا لموفوهم نصيبهم غير منقوص} [هود: 109] ويكون الاعتراض تمّ عند قوله: {فاختلف فيه}، وعليه فضمير: {بينهم} عائد إلى اسم الإشارة من قوله: {ممّا يعبد هؤلاء} [هود: 109] أي ولولا ما سبق من حكمة الله أن يؤخّر عنهم العذاب لقضي بينهم، أي لقضى الله بينهم، فأهلك المشركين والمخالفين ونصر المؤمنين.
فيكون: {بينهم} هو نائب فاعل (قُضي).
والتّقدير: لوقع العذاب بينهم، أي فيهم.
ويجوز أن يكون عطفًا على جملة: {فاختلف فيه} فيكون ضمير: {بينهم} عائدًا إلى ما يفهم من قوله: {فاختُلف فيه} لأنّه يقتضى جماعة مختلفين في أحكام الكتاب.
ويكون: {بينهم} متعلّقًا بـ (قُضي)، أي لحكم بينهم بإظهار المصيب من المخطئ في أحكام الكتاب فيكون تحذيرًا من الاختلاف، أي أنّه إن وقع أمهل الله المختلفين فتركهم في شكّ.
وليس من سنة الله أن يقضي بين المختلفين فيوقفهم على تمييز المحق من المبطل، أي فعليكم بالحذر من الاختلاف في كتابكم فإنّكم إن اختلفتم بقيتم في شك ولحقكم جزاء أعمالكم.
و: {الكلمة} هي إرادة الله الأزليّة وسنته في خلقه.
وهي أنّه وكل النّاس إلى إرشاد الرسل للدّعوة إلى الله، وإلى النّظر في الآيات، ثم إلى بذل الاجتهاد التّام في إصابة الحق، والسعي إلى الاتفاق ونبذ الخلاف بصرف الأفهام السديدة إلى المعاني، وبالمراجعة فيما بينهم، والتبصّر في الحق، والإنصاف في الجدل والاستدلال، وأن يجعلوا الحق غايتهم والاجتهاد دأبهم وهجّيراهم.
وحكمة ذلك هي أنّ الفصل والاهتداء إلى الحقّ مصلحة للنّاس ومنفعة لهم لا لله.
وتمام المصلحة في ذلك يحْصل بأن يبذلوا اجتهادهم ويستعملوا أنظارهم لأنّ ذلك وسيلة إلى زيادة تعقلهم وتفكيرهم.
وقد تقدّم في قوله تعالى: {وتمّت كلمات ربك صدقًا وعدلًا} في سورة [الأنعام: 115] وقوله: {ويريد الله أن يحقّ الحق بكلماته} في سورة [الأنفال: 7].
ووصفها بالسبق لأنّها أزلية، باعتبار تعلق العلم بوقوعها، وبأنّها ترجع إلى سنة كلية تقررت من قبل.
ومعنى {لقضي بينهم} أنّه قضاء استئصال المبطل واستبقاء المحق، كما قضى الله بين الرسل والمكذبين، ولكن إرادة الله اقتضت خلاف ذلك بالنسبة إلى فهم الأمة كتابها.
وضمير: {بينهم} يعود إلى المختلفين المفاد من قوله: {فاختلف فيه} والقرينة واضحة.
ومتعلق القضاء محذوف لظهوره، أي لقضي بينهم فيما ختلفوا فيه كما قال في الآية الأخرى: {إنّ ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} [السجدة: 25].
يجوز أن يكون عطفًا على جملة: {وإنّا لموفوهم نصيبهم غير منقوص} [هود: 109] فيكون ضمير: {وإنّهم} عائدًا إلى ما عاد إليه ضمير: {ما يعبدون} [هود: 109] الآية، أي أنّ المشركين لفي شك من توفية نصيبهم لأنّهم لا يؤمنون بالبعث.
ويلتئم مع قوله: {ولولا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم} على أوّل الوجهين وأولاهما، فضمير: {منه} عائد إلى: {يوم} من قوله: {يوم يأتتِ لا تكلم نفس} [هود: 105] إلخ.
ويجوز أن تكون عطفًا على جملة: {فاختلف فيه}، أي فاختلف فيه أهله، أي أهل الكتاب فضمير: {وإنّهم} عائد إلى ما عاد إليه ضمير: {بينهم} على ثاني الوجهين، أي اختلف أهل الكتاب في كتابهم وإنّهم لفي شكّ.
أمّا ضمير: {منه} فيجوز أن يعود إلى الكتاب، أي أقدموا على ما أقدموا عليه على شكّ وتردّد في كتابهم، أي دون علم يوجب اليقين مثل استقراء علمائنا للأدلّة الشرعيّة، أو يوجب الظنّ القريب من اليقين، كظن المجتهد فيما بلغ إليه اجتهاده، لأن الاستدلال الصّحيح المستنبط من الكتاب لا يعدّ اختلافًا في الكتاب إذ الأصل متّفق عليه.
فمناط الذمّ هو الاختلاف في متن الكتاب لا في التّفريع من أدلّته.
ويجوز أن يكون ضمير: {منه} عائدًا إلى القرآن المفهوم من المقام ومن قوله: {ذلك من أنباء القرى نقصّه عليك} [هود: 100].
والمريب: المُوقع في الشكّ، ووصف الشكّ بذلك تأكيد كقولهم: ليل أليل، وشعر شاعر.
{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ}
تذييل للأخبار السابقة.
والواو اعتراضية.
و(إنْ) مخفّفة من: {إنّ} الثّقيلة في قراءة نافع، وابن كثير، وأبي بكر عن عاص، وأعملت في اسمها فانتصب بعدها.
و(إنْ) المخففة إذا وقعت بعدها جملة اسمية يكثر إعمالها ويكثر إهمالها قاله الخليل وسيبويه ونحاة البصرة وهو الحق.
وقرأ الباقون (إنّ) مشدّدة على الأصل.
وبتنوين: {كُلاّ} عوض عن المضاف إليه.
والتقدير: وإنّ كلّهم، أي كلّ المذكورين آنفًا من أهل القرى، ومن المشركين المعرّض بهم، ومن المختلفين في الكتاب من أتباع موسى عليه السّلام.
و(لَما) مخفّفة في قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، والكسائي، فاللاّم الدّاخلة على (مَا) لام الابتداء التي تدخل على خبر: {إنّ}.
واللاّم الثّانية الدّاخلة على: {ليوفينّهم} لام جواب القسم.
و(مَا) مزيدة للتأكيد.
والفصل بين اللاّمين دفعًا لكراهة توالي مثلين.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وعاصم، وأبو جعفر، وخلَف بتشديد الميم من (لَمّا).
فعند مَن قرأ: {إنْ} مخفّفة وشدّد الميم وهو أبو بكر عن عاصم تكون {إن} مخفّفة من الثقيلة، وأمّا مَن شدّد النون {إنّ} وشدّد الميم من {لمّا} وهم ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف فتوجيه قراءتهم وقراءة أبي بكر ما قاله القراء: إنّها بمعنى {لَمِنْ مَا} فحذف إحدى الميمات الثلاث، يريد أنّ {لَمّا} ليست كلمة واحدة وإن كانت في صُورتها كصورة حرف {لَمّا} في رسم المصحف {لأنّه اتّبع فيه صورة النطق بها} وإنّما هي مركّبة من لاَم الابتداء و{مِنْ} الجارة التي تستعمل في معنى كثرة تكرّر الفعل كالتي في قول أبي حَية النمري:
وإنّا لَمِمّا نَضرب الكبش ضربة ** على رأسه تُلقِي اللسانَ من الفم

أي نكثر ضرب الكبش، أي أمير جيش العدوّ على رأسه.
وقول ابن عبّاس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاقي من الوحي شدّة، وكان ممّا يحرّك لسانه حين يُنزل عليه القرآن، فقال الله تعالى: {لا تحرّك به لسانك لتعجل به} [القيامة: 16] الآية.
فأصل هذه الكلمات في الآية على هذه القراءات: وإنّ كُلا لَمِنْ مَا ليُوفينهم، فلمّا قلبت نون (من) ميمًا لإدغامها في ميم (مَا) اجتمع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى تخفيفًا وهي ميم (مِن) لوجود دليل عليها وهو الميم الثانية لأنّ أصل الميم الثّانية نون (مِن) فصار (لَمّا).
ولام: {ليوفينّهم} لام قسم.
ومعنى الكثرة في هذه الآية الكناية عن عدم إفلات فريق من المختلفين في الكتاب من إلحاق الجزاء عن عمله به.
والمعنى: وإنّ جميعهم لَلاَقُون جزاء أعمالهم لا يفلت منهم أحد، وإن توفية الله إياهم أعمالهم حقّقه الله ولم يسامح فيه.
فهذا التخريج هو أولى الوجوه التي خرجت عليها هذه القراءة وهو مروي عن الفراء وتبعه المهدوي ونصر الشيرازي النّحوي ومشى عليه البيضاوي.
وقد أنهاها أبو شامة في شرح منظومَة الشّاطبي إلى ستّة وجوه وأنهاها غيره إلى ثمانية وجوه.
وفي تفسير الفخر: سمعت بعض الأفاضل قال: إنّ الله تعالى لمّا أخبر عن توفية الأجزية على المستحقّين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التّوكيدات، أوّلها: كلمة (إنْ) وهي للتأكيد، وثانيها (كلّ) وهي أيضًا للتّأكيد، وثالثها اللاّم الدّاخلة على خبر (إنّ)، ورابعها حرف (ما) إذا جعلناه موصولًا على قول الفراء، وخامسها القسم المضمر، وسادسها اللاّم الدّاخلة على جواب القسم، وسابعها النون المؤكدة في قوله: {ليوفينهم}.
وتوفية أعمالهم بمعنى توفية جزاء الأعمال، أي إعطاء الجزاء وافيًا من الخير على عمل الخير ومن السوء على عمل السوء.
وجملة: {إنّه بما يعملون خبير} استئناف وتعليل للتّوفية لأنّ إحاطة العلم بأعمالهم مع آرادة جزائهم توجب أن يكون الجزاء مطابقًا للعمل تمام المطابقة.
وذلك محقق التوفية.